فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قوله: {فوقع الحق} تفريع على {تلقّف ما يأفكون}.
والوقوع حقيقته سقوط الشيء من أعلى إلى الأرض، ومنه: وقَع الطائر، إذا نَزَل إلى الأرض، واستعير الوقوع لظهور أمر رفيع القدر، لأن ظهوره كان بتأييد الهي فشبه بشيء نزل من علو، وقد يطلق الوقوع على الحصول لأن الشيء الحاصل يشبه النازل على الأرض، وهي استعارة شائعة قال تعالى: {وإن الدين لَواقع} [الذاريات: 6] أي: حاصل وكائن، والمعنى فظهر الحق وحصل.
ولعل في اختيار لفظ {وقع}، هنا دون نزل مراعاة لفعل الإلقاء لأن الشيء الملقَى يقع على الأرض فكانَ وقوع العصا على الأرض وظهور الحق مقترنين.
و{الحق}: هو الأمر الثابت الموافق للبرهان، وضده الباطل، والحق هنا أريد به صدق موسى وصحة معجزته وكون ما فعلته العصا هو من صنع الله تعالى، وأثَرِ قدرته.
و{بطل}: حقيقته اضمحل.
والمراد: اضمحلال المقصود منه وانتفاء أثَرٍ مزعوم لشيء يقال: بطَل سعيه، أي: لم يأت بفائدة، ويقال: بطَل عمله، أي: ذهب ضياعًا وخُسر بلا أجر، ومنه قوله تعالى: {ويُبْطلُ الباطلَ} [الأنفال: 8] أي: يزيل مفعوله وما قصدوه منه، فالباطل هو الذي لا فائدة فيه، أو لا خير فيه، ومنه سمي ضد الحق باطلًا لأنه شيء لا يحصل منه الأثر المرجو، وهو القبول لدى العقول المستقيمة.
وشاع هذا الإطلاق حتى صار الباطل كالاسم الجامد، مدلوله هو ضد الحق، ويطلق الباطل اسمَ فاعل من بطَل، فيساوي المصدر في اللفظ، ويتعين المراد منهما بالقرينة، فصوغ فعل بطل يكون مشتقًا من المصدر وهو البطلان، وقد يكون مشتقًا من الاسم وهو الباطل.
فمعنى {بطل} حينئذٍ وُصف بأنه باطل مثل فَهِد وأسد، ويصح تفسيره هنا بالمعنيين، فعلى الأول يكون المعنى: وانتفت حينئذٍ آثار ما كانوا يعملون، وعلى الثاني يكون المعنى: واتصف ما يعملون بأنه باطل، وعلى هذا الوجه يتعين أن يكون المراد من الفعل معنى الظهور لا الحدوث، لأن كون ما يعملونه باطلًا وصف ثابت له من قبللِ أن يُلقيَ موسى عصاه، ولكن عند إلقاء العصا ظهر كونه باطلًا، ويبعّد هذا أن استعمال صيغة الفعل في معنى ظهور حدثه لا في معنى وجوده وحدوثه، خلافُ الأصل فلا يصار إليه بلا دَاع.
وأما من فسر {بطل} بمعنى: العدم.
وفسر {ما كانوا يعملون} بحبال السحرة وعصيهم ففي تفسيره نبُو عن الاستعمال، وعن المقام.
وزيادة قوله: {وبطل ما كانوا يعملون} بعد قوله: {فوقع الحق} تقرير لمضمون جملة {فوقع الحق} لتسجيل ذم عملهم، ونداءٌ بخيبتهم، تأنيسًا للمسلمين وتهديدًا للمشركين وللكافرين أمثالها.
و{ما كانوا يعملون} هو السحر، أي: بطلت تخيلات الناس أن عصي السحرة وحبالهم تسعى كالحيات، ولم يعبّر عنه بالسحر إشارة إلى أنه كان سحرًا عجيبًا تكلفوا له وأَتوا بمنتهى ما يعرفونه.
وقد عطف عليه جملة {فغُلبوا} بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم.
و{هنالك} اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر.
والانقلاب: مطاوع قَلَبَ والقلب تغيير الحال وتبدله، والأكثر أن يكون تغييرًا من الحال المعتادة إلى حال غريبة.
ويطلق الانقلاب شائعًا على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه.
وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى صار وهو المراد هنا أي: صاروا صاغرين.
واختيار لفظ {انقلبوا} دون رَجعُوا أو صاروا لمناسبته للفظ غُلبوا في الصيغة، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون، فكان لفظ {انقلبوا} أدخل في الفصاحة.
والصّغَار: المذلة، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} عَطْف على {فغُلبوا وانقَلبوا} [الأعراف: 119]، فهو في حيز فاء التعقيب، أي: حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون، أي: بدون مهلة، وتعقيب كل شيء بحسبه، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق، فلذلك سجدوا، وكان هذا خاصًا بهم دون بقية الحاضرين، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم.
والإلقاء: مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض، أي: لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد.
وبُني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل، وهو أنفسُهم، والتقدير: وألقَوْا أنفسهم على الأرض.
و{ساجدين} حال، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين.
وجملة: {قالوا} بدل اشتمال من جملة: {ألقي السحرة} لأن الهوي للسجود اشتمل على ذلك القول، وهم قصدوا من قولهم ذلك الإعلان بإيمانهم بالله لئلا يظن الناس أنهم سجدوا لفرعون، إذ كانت عادة القبط السجود لفرعون، ولذلك وصفوا الله بأنه رب العالمين بالعنوان الذي دَعا به موسى عليه السلام، ولعلهم لم يكونوا يعرفون اسمًا علمًا لله تعالى، إذ لم يكن لله اسم عندهم، وقد عُلم بذلك أنهم كفروا بالإهية فرعون.
وزادوا هذا القصد بيانًا بالإبدال من {رب العالمين} قولهم: {رب موسى وهارون} لئلا يُتوهم المبالغة في وصف فرعون بأنه رب جميع العالمين، وتعين في تعريف البدل طريق تعريف الإضافة لأنها أخصر طريق، وأوضحه هنا، لاسيما إذا لم يكونوا يعرفون اسمًا علمًا على الذات العلية.
وهذا ما يقتضيه تعليم الله اسمه لموسى حين كلمه فقال: {إنني أنا الله} في سورة طه (14).
وفي سفر الخروج: وقال الله لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم.. إلخ الإصحاح الثالث. اهـ.

.قال الشعراوي:

وقوله: {فَوَقَعَ الحق} أي صار الحق النظري واقعًا ملموسًا؛ لأن هناك فارقًا بين كلام نظريًّا وكلام يؤيده الواقع، والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه.
وقوله سبحانه: {فَوَقَعَ الحق} أي ثبت الحق، فبعد أن كان كلامًا خبريًّا يصح أن يصدَّق ويصح أن يُكَذب. صار بصدقه واقعًا. {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر. إن الحق جعل الصدق موسى واقعًا مشهودًا. وبذلك غُلب السحرة.
ويقول الحق: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ}.
ولم يغلب السحرة فقط، بل غلب أيضًا فرعون وجماعته، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار، صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى. لذلك ذيل الحق الآية بقوله: {وانقلبوا صَاغِرِينَ} أي أذلاء.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ}.
ولم يقل الحق: وسجد السحرة، ولكنه قال: {ألقى} مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس برأيهم، لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم، كأن شيئًا آخر ألقاهم ساجدين، وهو الانبهار بالحق. فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر، ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحرًا، وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي جاءوا بها من كل المدائن، قيل إنها حُملت على سبعين بعيرًا وشاهدوا كيف أن العصا التي صارت حية أو ثعبانًا لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت، وهكذا تيقن أن هذا لا يمكن أن يكون من فعل ساحر، وانظر إلى الاستجابة منهم لمَّا رأوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}.
وهل هم سجدوا بعد الإِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود، ولكن كان الأمر يقتضي ألا يسجد أحد إلا لأنه آمن، لكن نحن نعرف أن الإِيمان عمل قلبي، والسجود عمل عضلي وسلوك عملي، فكل منهم آمن بقلبه فسجد.
وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا: آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن لا نرتب السجود على إيمان، بل نرتب السجود مع القول بالإِيمان وبإعلان الإِيمان؛ لأن إعلان الإِيمان شيء، والإِيمان شيء آخر، فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلان الإِيمان، وكأن الناس سألوهم: ما الذي جرى لكم؟ فقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}.
إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الإِيمان يعني وجود الإِيمان أولًا، والسحرة قد آمنوا فسجدوا، فاستغرب منهم الناس هذا السجود، وهنا قال السحرة: لا تستغربوا ولا تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين. {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} [الأعراف: 121].
وقيل في بعض التفاسير: إن فرعون قال: أنا رب العالمين. لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا فأعلنوا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}. وقال فرعون: لقد ربيت أنا موسى، فقالوا: لكنك لم ترب هارون.
ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}.
ولأن السحرة أعلنوها واضحة بالإِيمان برب العالمين رب موسى وهارون، وكان لابد أن يغضب فرعون، فيأتي القرآن بما جاء على لسانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ...}. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أي ثم أرسلنا موسى بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل.
وقيل: الضمير في {مّن بَعْدِهِمْ} راجع إلى الأمم السابقة، أي من بعد إهلاكهم {إلى فِرْعَوْنَ وملئه} فرعون هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة.
وملأ فرعون: أشراف قومه، وتخصيصهم بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم، لأن من عداهم كالأتباع لهم.
قوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها.
وأطلق الظلم على الكفر، لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفرًا متبالغًا، لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها.
والمراد بالآيات هنا: هي الآيات التسع.
أو معنى: {فَظَلَمُواْ بِهَا} ظلموا الناس بسببها لما صدّوهم عن الإيمان بها، أو ظلموا أنفسهم بسببها {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} أي المكذبين بالآيات الكافرين بها، وجعلهم مفسدين، لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد.
قوله: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} أخبره بأنه مرسل من الله إليه، وجعل ذلك عنوانًا لكلامه معه، لأن من كان مرسلًا من جهة من هو رب العالمين أجمعين، فهو حقيق بالقبول لما جاء به، كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته: أنا رسول الملك إليكم، ثم يحكي ما أرسل به فإن في ذلك من تربية المهابة، وإدخال الروعة، مالا يقادر قدره.